اختلاق بردية يروشالمه
كاتِب وباحِث فلسطيني في التاريخِ القديمِ
ما فتئت (إسرائيل) تفتش عن شرعيتها في التاريخ القديم، مبررة وجودها على أساس من الحق التاريخي والديني في فلسطين. ولتأكيد هذه الحقوق التاريخية والدينية، قام الأثريون والباحثون بالتنقيب في كل مكان ورد اسمه في التوراة و«التوراة في يد والمجرفة في يد»، غير أن وسائلها تبدلت، إلى اصطناع آثار ولقى لتحقيق هذه الغاية.
في هذا الاطار، عرضت سلطة الآثار (الإسرائيلية)، خلال مؤتمر صحفي عقد في القدس، بتاريخ 26/10/2016؛ ورقة بردى يبلغ طولها 11 سنتيمترا وعرضها 2.5 سنتيمتر، وزعم علماء آثار «اسرائيليون»، إنها ترجع إلى القرن السابع قبل الميلاد (إلى نحو 2700 سنة)، وعليها كتابة بالعبرية «يروشَالِمه».
ووفق أقوال علماء الآثار المسؤولين، تعزز البردية الادعاء القائل إن الاسم العبري الأصلي لمدينة القدس هو « يروشَالِمه» وليس «يروشلايم» وهو الاسم الذي أصبح متبعا لاحقا.
خلال المؤتمر الصحفي قال الباحثون، البروفيسور شموئيل احيتوف من الجامعة العبرية، والدكتور ايتان كلاين، وامير جانون من هيئة الآثار، بأن هذه الوثيقة هي شهادة تصدير لنوع من النبيذ تم إرساله من قبل الملك، من بلدة اسمها (نعراتا)، فى غور الأردن، شمال اريحا، وهذه هى المرة الأولى التى ظهر فيها اسم القدس على شهادة «أصلية» بالعبرية.
حسب هؤلاء الباحثين فأن هذه الوثيقة هى شهادة تصدير مؤقتة تم إرفاقها بالنبيذ، لكن الشهادة والبضاعة لم تصل إلى هدفها، وإنما تم سرقتها فى الطريق، وتدحرجت الشهادة إلى مغارة فى الضفة.
وجاء في نص البردية الهشة: « خادمة الملك من نعرتا أوعية نبيد إلى يروشالمه».
قال امير جانون من هيئة الآثار، خلال عرض ورقة البردى على الصحافة «انها بالنسبة لللآثار (الاسرائيلية) اول مرة يرد فيها اسم القدس بالعبرية خارج التوراة». واعتبر ان «للمخطوطة قيمة تجارية كبيرة جدا لكن قيمتها الاثرية اكبر لانها تتعلق بتاريخ الشعب اليهودي، بهذا البلد، ولا سيما بالقدس».
استغل رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتانياهو عرض هذه الوثيقة للتعقيب على قرار اليونسكو ضد الكيان الصهيوني، وقال: «تم اليوم تفنيد هذا التشويه بواسطة شهادة أخرى نشرتها سلطة الآثار لدينا، هذه شهادة تصدير كتبت باللغة العبرية القديمة، وهذه هى الكلمة الحاسمة، يمكنكم رؤية ذلك بالعبرية. مكتوب «يروشلمه»... هذه رسالة من الماضى إلى اليونسكو. هذا يشرح ارتباطنا بالقدس ومركزية القدس.. ليس بالعربية، ليس بالآرامية ولا باليونانية ولا اللاتينية، بل بالعبرية».
إن هذه الوثيقة، التى دخلت في «عِلم الآثار التوراتي»، على أنها أول وثيقة من «مصدر مُستقِل»، تُثبِت الصِلَة ما بين القدس الفلسطينية، واليهود، لن تستطيع أن تقف صامدة أمام النقد الصارم، فليس من الصعب فضح التزوير في الوثيقة؛ بالرغم من تأريخ الوثيقة حسب الكربون المشع ـ 14، فهذ التأريخ ليس كافياً لضمان صحة الوثيقة أو أصالتها، لأن التأريخ لا يقول شيئا عن الكتابة التى عليها، فمن الممكن أن تكون ورقة البردى قديمة، وتم شرائها والكتابة عليها بواسطة أحد المزورين. وهذا يفسر لنا بقاء ورقة البردى طوال هذه الفترة متماسكة، في ظل مناخ رطب في بلادنا فلسطين. ويفسر لنا (أيضاً) أن الحبر المكتوب به النص لم يتأثر مع الزمن.
علاوة على ذلك فقد اختار من كتب الوثيقة كلمتين «نادرتان» الاستخدام، وهما (يورشالمه) و(نعرتاه) لينقشهما عليها ليثبت أن الوثيقة أصلية.
أما ما أثير من أن الوثيقة كتبت باللغة العبرية القديمة، فهذا يدفعنا إلى طرح السؤال التالي، هل كانت هناك لغة «عبرية» قديمة؟! بالرغم من عدم وجود قوم في التاريخ القديم يسمى بـ«العبرانيين»؟! فالمطلع ولو قليلاً، على النصوص الآثارية يري جيداً أن هذا التسليم المطمئن ينطوي على مغالطات تاريخية فمعظم الذين كتبوا في هذا الموضوع أشاروا إلى وجود موجة لأناس يسمون «العبريين» دون دليل اللهم إلا الدليل التوراتي وغير الكامل في هذه النقطة. فمصطلح «العبرية»، التي ليست إلا وهماً معقداً ومستمراً لشعوذة اشتقاقية لغوية.
من الجدير بالذكر، أن كلمة «أورشليم» لم تأتى من خارج النص التوراتي، وما يقال عن وردها في الوثائق المصرية القديمة، هو ضرب من الدجل التاريخي، فالكلمة التي وجد فيها الباحثون إشارة إلى «أورشليم» هي «أُشاموم»، والتى قراءها العالم الألماني سيث (K. Sathe)، في العام 1925، في عدد من النصوص ففسرها بأنها «أورشالم». والقراءه الصحيحة للأسم هي «أُشاموم» كما قرائها د. أحمد فخري، ود. عبد الحميد زايد. وقد بين ذلك كاتب المقال (أحمد الدبش) في مؤلفاته «كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة العرب» (2005)، «اختطاف أورشليم» (2011). من هذا كله، أعتقد أن الوثيقة «مُزيَّفة».
أخيراً، نعيد التأكيد على أن صورة إسرائيل، كما وردت في الكتاب المقدس، ما هي إلا قصة خيالية، وتلفيق تاريخي.