Friday, November 11, 2016

اختلاق بردية يروشالمه

اختلاق بردية يروشالمه

بقلم: أحمد الدَبَشْ
كاتِب وباحِث فلسطيني في التاريخِ القديمِ

ما فتئت (إسرائيل) تفتش عن شرعيتها في التاريخ القديم، مبررة وجودها على أساس من الحق التاريخي والديني في فلسطين. ولتأكيد هذه الحقوق التاريخية والدينية، قام الأثريون والباحثون بالتنقيب في كل مكان ورد اسمه في التوراة و«التوراة في يد والمجرفة في يد»، غير أن وسائلها تبدلت، إلى اصطناع آثار ولقى لتحقيق هذه الغاية.

في هذا الاطار، عرضت سلطة الآثار (الإسرائيلية)، خلال مؤتمر صحفي عقد في القدس، بتاريخ 26/10/2016؛ ورقة بردى يبلغ طولها 11 سنتيمترا وعرضها 2.5 سنتيمتر، وزعم علماء آثار «اسرائيليون»، إنها ترجع إلى القرن السابع قبل الميلاد (إلى نحو 2700 سنة)، وعليها كتابة بالعبرية «يروشَالِمه».

ووفق أقوال علماء الآثار المسؤولين، تعزز البردية الادعاء القائل إن الاسم العبري الأصلي لمدينة القدس هو « يروشَالِمه» وليس «يروشلايم» وهو الاسم الذي أصبح متبعا لاحقا. 

خلال المؤتمر الصحفي قال الباحثون، البروفيسور شموئيل احيتوف من الجامعة العبرية، والدكتور ايتان كلاين، وامير جانون من هيئة الآثار، بأن هذه الوثيقة هي شهادة تصدير لنوع من النبيذ تم إرساله من قبل الملك، من بلدة اسمها (نعراتا)، فى غور الأردن، شمال اريحا، وهذه هى المرة الأولى التى ظهر فيها اسم القدس على شهادة «أصلية» بالعبرية.
حسب هؤلاء الباحثين فأن هذه الوثيقة هى شهادة تصدير مؤقتة تم إرفاقها بالنبيذ، لكن الشهادة والبضاعة لم تصل إلى هدفها، وإنما تم سرقتها فى الطريق، وتدحرجت الشهادة إلى مغارة فى الضفة.

وجاء في نص البردية الهشة: « خادمة الملك من نعرتا أوعية نبيد إلى يروشالمه». 

قال امير جانون من هيئة الآثار، خلال عرض ورقة البردى على الصحافة «انها بالنسبة لللآثار (الاسرائيلية) اول مرة يرد فيها اسم القدس بالعبرية خارج التوراة». واعتبر ان «للمخطوطة قيمة تجارية كبيرة جدا لكن قيمتها الاثرية اكبر لانها تتعلق بتاريخ الشعب اليهودي، بهذا البلد، ولا سيما بالقدس».
استغل رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتانياهو عرض هذه الوثيقة للتعقيب على قرار اليونسكو ضد الكيان الصهيوني، وقال: «تم اليوم تفنيد هذا التشويه بواسطة شهادة أخرى نشرتها سلطة الآثار لدينا، هذه شهادة تصدير كتبت باللغة العبرية القديمة، وهذه هى الكلمة الحاسمة، يمكنكم رؤية ذلك بالعبرية. مكتوب «يروشلمه»... هذه رسالة من الماضى إلى اليونسكو. هذا يشرح ارتباطنا بالقدس ومركزية القدس.. ليس بالعربية، ليس بالآرامية ولا باليونانية ولا اللاتينية، بل بالعبرية».

إن هذه الوثيقة، التى دخلت في «عِلم الآثار التوراتي»، على أنها أول وثيقة من «مصدر مُستقِل»، تُثبِت الصِلَة ما بين القدس الفلسطينية، واليهود، لن تستطيع أن تقف صامدة أمام النقد الصارم، فليس من الصعب فضح التزوير في الوثيقة؛ بالرغم من تأريخ الوثيقة حسب الكربون المشع ـ 14، فهذ التأريخ ليس كافياً لضمان صحة الوثيقة أو أصالتها، لأن التأريخ لا يقول شيئا عن الكتابة التى عليها، فمن الممكن أن تكون ورقة البردى قديمة، وتم شرائها والكتابة عليها بواسطة أحد المزورين. وهذا يفسر لنا بقاء ورقة البردى طوال هذه الفترة متماسكة، في ظل مناخ رطب في بلادنا فلسطين. ويفسر لنا (أيضاً) أن الحبر المكتوب به النص لم يتأثر مع الزمن. 

علاوة على ذلك فقد اختار من كتب الوثيقة كلمتين «نادرتان» الاستخدام، وهما (يورشالمه) و(نعرتاه) لينقشهما عليها ليثبت أن الوثيقة أصلية.

أما ما أثير من أن الوثيقة كتبت باللغة العبرية القديمة، فهذا يدفعنا إلى طرح السؤال التالي، هل كانت هناك لغة «عبرية» قديمة؟! بالرغم من عدم وجود قوم في التاريخ القديم يسمى بـ«العبرانيين»؟! فالمطلع ولو قليلاً، على النصوص الآثارية يري جيداً أن هذا التسليم المطمئن ينطوي على مغالطات تاريخية فمعظم الذين كتبوا في هذا الموضوع أشاروا إلى وجود موجة لأناس يسمون «العبريين» دون دليل اللهم إلا الدليل التوراتي وغير الكامل في هذه النقطة. فمصطلح «العبرية»، التي ليست إلا وهماً معقداً ومستمراً لشعوذة اشتقاقية لغوية.

من الجدير بالذكر، أن كلمة «أورشليم» لم تأتى من خارج النص التوراتي، وما يقال عن وردها في الوثائق المصرية القديمة، هو ضرب من الدجل التاريخي، فالكلمة التي وجد فيها الباحثون إشارة إلى «أورشليم» هي «أُشاموم»، والتى قراءها العالم الألماني سيث (K. Sathe)، في العام 1925، في عدد من النصوص ففسرها بأنها «أورشالم». والقراءه الصحيحة للأسم هي «أُشاموم» كما قرائها د. أحمد فخري، ود. عبد الحميد زايد. وقد بين ذلك كاتب المقال (أحمد الدبش) في مؤلفاته «كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة العرب» (2005)، «اختطاف أورشليم» (2011). من هذا كله، أعتقد أن الوثيقة «مُزيَّفة».

أخيراً، نعيد التأكيد على أن صورة إسرائيل، كما وردت في الكتاب المقدس، ما هي إلا قصة خيالية، وتلفيق تاريخي.



القدسُ ليست أورشليم

القدسُ ليست أورشليم

بقلم: أحمد الدَبَشْ
كاتِب وباحِث فلسطيني في التاريخِ القديمِ

عنوانُ هذا المقالِ مستعار من عنوانِ كتابِ الصديقِ الباحثِ العراقي، فاضل الربيعي، الموسوم «القدسُ ليست أورشليم، مساهمةُ في تصحيحِ تاريخِ فلسطينِ»، الذي صدر في العام 2010. في هذا الكتابِ، طرح الربيعي بوضوحِ النظرية التي تؤكد إن "القدسُ الفلسطينيةُ ليست أورشليم التوراةِ". وبالرغم من أن الراحلَ د. كمال الصليبي، قد أشار إلى ذلك في عدةِ أعمال له، منذُ العامِ 1985؛ وذهبَ الباحثُ العربي، فرج الله صالح ديب، في كتابهِ «التوراةُ العربيةِ وأورشليمُ اليمنيةِ»، الذي صدرَ في العامِ 1994، إلى أن "مدينةَ أورشليم يمنية"؛ وأشار الباحث المصري، أحمد عيد، إلى ذلك في كتابه «جغرافية التوراة في جزيرة الفراعنة»، الذي صدر في العام 1996، وطرح كاتب المقال، الباحث أحمد الدبش، في كتابهِ «كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة العرب»، الذي صدر في العام 2006، السؤال الآتى:

هل كانت (أورشليم) في اليمنِ؟! وحاولَ عددٌ من الباحثينَ تتبُّع ملوك بني إسرائيل في عدّةِ أماكنَ خارج بلادنا فلسطين. 

إلا أن الربيعي كان أكثر من كتبوا في هذا الموضوعِ وضوحًا؛ فقد قدَّم الربيعي هذهِ النظرية استناداً إلى قراءتهِ للتوراةِ باللغةِ العبريةِ، والاعتمادِ على مؤلفاتِ الهمداني، والمصادرِ العربيةِ القديمةِ، والاستعانةِ بالشعرِ العربي القديمِ. 

على أيّة حال؛ فقد تعرَّض أصحاب هذا الاتجاهِ إلى النقدِ والتجريحِ من قِبَلِ بعض الباحثينَ، الذين اصطنعوا صرحاً تاريخياً وهمياً لوجود بني إسرائيل في فلسطين؛ صرحاً لا ينبنى على حقائقِ تاريخيةِ أو جغرافيةِ أو دينيةِ.

هل نحنُ أصحابَ هذه النظريةِ؟!

من الجديرِ بالانتباهِ، أن أطروحات الباحثينَ التي تَعتبر (عسير)، أو (اليمن)، أو (الجزيرةِ العربيةِ) عموماً هي المسرح الجغرافي والتاريخي لملوكِ بني إسرائيلَ ليست بجديدة؛ فقد سبقهم العديد من الباحثين المستشرقينَ الثقاة؛ ففي عام 1907، بدأت أكاديميةُ فينيا، بإصدارِ مؤلَّفِ المستشرقِ النمساوي (Alois Musil)، بعنوان «Arabia Petraea» في أربعة أجزاء، والذي كتبهُ أثناءَ زيارتهِ لمواقعِ التاريخ التوراتي، أملاً في أن يفهمَ التوراة من خلالِ الطبيعةِ التي وُلِدَت فيها، وأدرك (Alois Musil) في حينهِ، وقبل غيرهِ، ما توصَّل إليه الباحثون العرب.

بل لقد ذهبَ المستشرقُ مرجوليوث، إلى أن "الوطنَ الأصلي لبني إسرائيل لم يكن في شبهِ جزيرةِ سيناءِ؛ بل كان ببلادِ اليمنِ التي خرجت منها أمم كثيرةً من أقدمِ الأزمنةِ التاريخيةِ". 

وقد ألَّفَ المستشرقُ الألماني هوغو ونكلر (Hugo Winckler) رسالتهُ المثيرةِ للجدلِ التي أسماها «مصري وملوخا ومعين»؛ وهي التى تبنّى فيها هذا الاتجاه.

القدسُ ليست أورشليمَ أو يبوسَ
ذهبَ أكثريةُ الباحثينَ إلى رفضِ نظريةِ «القدسَ ليست أورشليمَ» استناداً إلى سببيْن؛ الأول أن مدينة أورشليم ذُكِرت في النصوصِ المصريةِ القديمةِ؛ أما السبب الثاني فهو أن النصوصَ القرآنيةَ تُشيرُ إلى داوودِ وسليمانِ؟! 

هنا أجد لزاماً علينا إبداء بعضَ الملاحظاتِ، لم يتطرَّق لها باحثو اتجاه «جغرافيةَ الكتابِ المقدسِ»، وقد ذكرتها في مؤلفي «اختطاف أورشليم»، في عام 2013: 
أولاً: لا وجودَ لمدينةِ القدسِ قبل القرنِ السابعَ قبل الميلادِ أثرياً؛ (تومس طومسون، كيث وايتلام، يسرائيل فلنكشتاين، مرجريت شنايدر، نيلز لمكة، وغيرهم من الباحثين). 

ثانياً: في العامِ 1926، قامَ العالمُ الألماني سيث (K. Sathe) بترجمةِ نصوصَ اللعنةِ المصريةِ في القرن التاسع عشر ق.م.، والتعليق عليها. وقد لفت نظر سيث (K. Sathe) كلمةَ «أوشام» (Awsamm)، في عددٍ من هذه النصوصِ، ففسَّرها بأنها «أورشالم».

ثالثاً: إذن الكلمةُ التي وَجدَ فيها الباحثونَ إشارةً إلى (أورشليم)، هي (Rw'szmm) الهيروغليفية؛ فقد قُرِأتَ الكلمةَ على أنها اسمَ مكان، ورُجِّح أن طريقةَ لفظها هي الطريقةِ المصريةِ للفظ كلمةِ أورشليمِ، التي كانت بالنسبة إليهم اسماً أجنبياً لبلدٍ أجنبي، يُقرأ على نحو يشبه (أ) رو ـ شاليموم (“U” rushalimum)؛ وهي قراءة قريبة من قراءةِ وثائق تل العمارنة اللاحقة للاسمِ، ولكن هذه القراءةِ لقيت معارَضة من الباحثِ ناداف نعمان (N. Na’aman)، الذي يرى أن الشطرَ الأولَ من الكلمةِ يجب أن يُقرأ روش (ros) ويعني رأس. أما الشطر الثاني فيُقرأ راميم، لتصبحَ الكلمة "روش ـ راميم" (Roshramem). 

رابعاً: عند قراءةَ النقشِ بهدوءِ نجد أنّ الاسم ليس «أورشليم» كما بيّنا؛ بل هو: «أُشاموم»، وتعني الشام نفسها مموّمة (مثل التنوين)؛ وإليكم النقش (صورة النقش مرفق):
احتوى النقش مخصص للأرض وليس مخصص للمدينة.
أُ شام [وم] مثل التنوين = شامٌ. 
حيث [أُ] سابقة تفيد التنبيه، حيث أقول: [أمهيبة] بمعنى [مهيبة] (اسم علم من نقوش أجاريت). وأقول [أُجاريت] لتعني [جريت = جرية = قرية = مدينة] (نقوش أجاريت).
فإذا كانت أورشليم فأين الراء وأين اللام.
ثم إنّ المخصّص الدالّ على الكلمة هو لأرض واسعة . 


خامساً: ذَكرتَ التوراةُ في العديدِ من المواضع اسماً آخر لأورشليمِ؛ هو «يبوس». وبالرغم من ذِكر التوراة لهذا الاسمِ؛ إلا أن الوثائقَ الأثريةَ قد صمتت بخصوصهِ صمتاً مطبقاً. 

سادساً: لا نجد في كلِ سورِ القرآنِ الكريمِ، التي تتحدَّث عن داوودِ، وابنهِ سليمان أقل دليل، أو حتى تلميح على وجودِ المملكةِ الداوديَّةِ ــ السليمانيَّةِ في بلادِنا فلسطين؛ علاوةً على ذلك، فإنه عندما فتحَ المسلمون بيتَ المقدسِ،في عام 636 ميلادياً، لم يكن بها أي أثر لمعبدٍ يهودي؛ بل ولا حتى ليهودي مقيم؛ وهذا يبدو جلياً من وثيقةِ الأمانِ التي أعطاها أميرُ المؤمنينَ، عمر بن الخطاب (رضي اللهُ عنهُ) لأهلِ إيليا؛ فقد تضمَّنتَ الوثيقةُ نصاً على: [ألا يسكن بإيليا (القدس) معهم أحدًا من اليهودِ]. 

سابعاً: جاء في القرآنِ الكريمِ عن حديثِ الهدهدِ مع سليمانِ: "فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ". وإذا عَنَتْ جملة "فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ"؛ أي غابَ الهدهدُ غيبةً ليست طويلة، ثم قدم منها. وقصرُ المدةِ الزمنيّةِ تعني قصرُ المسافةِ المكانيّةِ، فإنما يدلَ على أن مملكةَ سليمانُ لم تكن بعيدة عن أرضِ سبأ (اليمن)، نظراً لقِصرِ المدةِ الزمنيَّةِ لرحلةِ الهدهدِ، وبالتالي قصرِ المسافةِ المكانيَّةِ.

كل ما يمكن قوله، في النهاية، أتمنى أن يُتابعَ المؤرخونَ والباحثونَ، تحقيقاتهم حول هذا الموضوع، خدمةً لتاريخِنا الذي تعبثُ بهِ الأيدي؛ فإعادة صياغة تاريخنا، وتحريره من قبضةِ الدراساتِ التوراتيّةِ، ليست وقفاً على الأكاديميينَ وحدهم؟!



اليونسكو وشبح اليهود!

اليونسكو وشبح اليهود!


بقلم: أحمد الدَبَشْ
كاتِب وباحِث فلسطيني في التاريخِ القديمِ

صادقت لجنة المدراء التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» يوم الخميس (13/10/2016) خلال اجتماع عقد في العاصمة الفرنسية باريس، على قرار ينفي وجود ارتباط ديني لليهود بالمسجد الأقصى وحائط البراق. ويؤكد القرار على أنه: «لا علاقة أو رابط تاريخي أو ثقافي لليهود في مدينة القدس والمسجد الأقصى »، على أن يُصوّت المجلس التنفيذي للمنظمة، الثلاثاء المُقبل (18/10/2016)، على قرارين جديدين يهدفان إلى «الحفاظ على التراث الثقافي الفلسطيني وطابعه المميز في القدس الشرقية». وحدّد القرار هوية المسجد الأقصى، وتضمّن بنداً خاصّاً يتعلّق بالحرم القدسي، ويعرض فيه المكان على أنه مُقدّس للمُسلمين فقط، من دون أي اشارة الى قدسيته بالنسبة لليهود. 

كما لا يظهر في مشروع القرار أي ذكر لكلمات «جبل الهيكل» (Temple Mount)، وإنما يُكنّى فقط بأسمائه الإسلامية، المسجد الأقصى، والحرم الشريف. كما تُسمى منطقة الحائط الغربي باسمها العربي الاسلامي ـ ساحة البراق، التي سعت إسرائيل بشكل مستمر لتزوير هويته الإسلامية بإطلاق مسمى «جبل الهيكل» عليه.

اعتبرت وزارة الخارجية الصهيونية أن القرار يأتي «لتقويض الصلة اليهودية بالقدس». ووصف رئيس وزراء العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو ما يجري داخل المنظمة الدولية بـ «المسرح الهزلي السخيف». وقال: «مسرح العبث في اليونسكو مستمر واليوم تبنّت المنظمة قرارا مضللا آخر يقول إن الشعب (الإسرائيلي) ليس له ارتباط بجبل الهيكل والحائط الغربي، إعلان أن (إسرائيل) ليس لها علاقة بجبل الهيكل والحائط الغربي أشبه بالقول إن الصين ليس لها علاقة بسور الصين العظيم أو أن مصر ليس لها علاقة بالأهرام». 

أن أهمية هذا القرار ليست تاريخية وأثرية فقط، وإنما سياسية أيضاً، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن دولة (إسرائيل) الحديثة ترجع مطالبتها التاريخية والطبيعية إلى دولة العصر الحديدي [مملكة داود وسليمان]. فقد أشار إعلان الاستقلال (دولة إسرائيل الحديثة) الذي أصدره مجلس الأمة المؤقت في تل أبيب في 14/5/1948؛ إلى «إعادة بناء الدولة اليهودية» (re-establishment of the Jewish state)، وما هذا التعبير إلا صياغة لوعد بلفور الذي أعلن قبل واحد وثلاثين عاماً من إنشاء الدولة، ذلك الوعد الذي تحدث عن «إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين».

ففي السنوات الأخيرة، بدأ الإجماع على فكرة وجود المملكة الدوادية ـ السليمانية يتداعى تدريجياً، وإن كانت هذه الفكرة لا تزال تهيمن على خطاب الدراسات التوراتية، ومن يواليهم أصحاب الفكر الآسن حراسه من بعض الأكاديميين العرب. فقد أصدر ليتش، نقداً معتدلاً في حدته للاستخدام التاريخي للقصص التوراتية من منظور (أنثروبولوجي) بنيوى. والموضوع السائد في كتابه هو أن الكتاب العبري بوصفه نصاً مقدساً لا يوفر مصدراً تاريخياً ولا يعكس بالضرورة حقيقة عن الماضي. إنه يمثل عند ليتش، تبريراً للماضي يكشف عن عالم القصّاصين أكثر مما يكشف عن أية حقيقة تاريخية. ويطرح أسئلة مهمة جداً تثير شكوكاً حول التقديمات السائدة لحكمي داود وسليمان، وتُسائل تاريخية هذه المرحلة الهامة كما قُدمت في الموروثات الكتابية؛ أنا شخصياً أرى ذلك غير قابل للتصديق. ليس هناك أي دليل أثري على وجود هذين البطلين أو على وقوع أي من الأحداث التي ارتبطت بهما. ولو لا قداسة هذه القصص لكان وجودهما التاريخي مرفوضاً بالتأكيد.

شكك عالم الآثار يسرائيل فنكلشتاين، من جامعة تل أبيب بوجود أي صلة لليهود بالقدس، جاء ذلك خلال تقرير نشرته مجلة «جيروساليم ريبورت» الصهيونية، توضح فيه وجهة نظر فنكلشتاين، الذي أكد أنه لا يوجد أساس أو شاهد إثبات تاريخي على وجود داود، هذا الملك المحارب الذي اتخذ القدس عاصمة له والذي سيأتي (الميا) من صلبه للإشراف على بناء الهيكل الثالث، مؤكداً أن شخصية داود كزعيم يحظى بتكريم كبير لأنه وحد مملكتي يهودا وإسرائيل هو مجرد وهم وخيال لم يكن لها وجود حقيقي. كما يؤكد فنكلشتاين أن وجود باني الهيكل وهو سليمان بن داود مشكوك فيه أيضاً.

يشير مِلَّر، إلى أنه ليس هناك دليل على المملكة الداودية ــ السليمانية خارج التقاليد والموروثات الكتابية، المؤرخون الذين يتحدثون عن هذا الكيان إنما يفترضون مسبقاً صحة المعلومات التي يأخذونها من الكتاب العبري.

يقول العلاّمة طمسن، في كتابه «الماضي الخرافي (التوراة والتاريخ)»: «جرى تقديم ــ القرن العاشر ق.م ــ بوصفه العصر الذهبي لإسرائيل وعاصمتها في أورشليم. كانت تلك الحقبة مرتبطة بالمملكة المتحدة التي تضم السلطة السياسية لشاول وداود وسليمان وتسيطر على الجسر البري الضخم من النيل إلى الفرات. إضافة إلى مفهومها عن الهيكل الذي بناه سليمان بوصفه مركزاً لعبادة يهوه. تلك الصور لا مكان لها في أوصاف الماضي التاريخي الحقيقي. إننا نعرفها فقط كقصة، وما نعرفه حول هذه القصص لا يشجعنا على معاملتها كما لو أنها تاريخية، أو أنه كان يقصد منها أن تكون كذلك. ولا يتوافر دليل على وجود مملكة متحدة، ولا دليل على وجود عاصمة في أورشليم، أو وجود أي قوة سياسية موحدة متماسكة، هيمنت على فلسطين الغربية، ناهيك عن إمبراطورية بالحجم الذي تصفه الحكايات الأسطورية. ولا يتوافر أي دليل على وجود ملوك يدعون شاول أو داود أو سليمان؛ ولا نملك دليلاً على وجود هيكل في أورشليم في هذه الفترة المبكرة. ما نعرفه عن إسرائيل ويهوذا القرن العاشر لا يسمح لنا بتفسير انعدام الدليل هذا بوصفه فجوة في معرفتنا ومعلوماتنا حول الماضي، أو مجرد نتيجة للطبيعة العرضية للآثاريات. ما من متسع ولا سياق، لا شيء مصطنع أو أرشيف يشير إلى مثل هذه الحقائق التاريخية في القرن العاشر في فلسطين. لا يمكن للمرء أن يتكلم على دولة بلا سكان. ولا يمكنه أن يتكلم عن عاصمة من دون بلدة. والقصص ليست كافية».

إذن لا يوجد متسع لمملكة متحدة تاريخية أو لملوك كأولئك الذين جرى تقديمهم في القصص الكتابية لشاول وداود وسليمان. إن الحقبة المبكرة التي تؤطر فيها التراثات حكاياتها هي عالم خيالي من زمن غابر لم يوجد على هذا النحو أبداً .. لم يكن من الممكن أن توجد مملكة لأي شاول أو لأي داود ليكون ملكاً عليها، ببساطة لأنه لم يكن ثمة ما يكفي من الناس. دولة يهوذا لم تكن فقط غير موجودة بعد، بل إننا لا نملك أي دليل على وجود أي قوة سياسية في أي مكان في فلسطين كانت كبيرة بما يكفي، أو متطورة بما يكفي لأن تكون قادرة على توحيد الاقتصادات والأقاليم العديدة لهذه البلاد. في هذا الوقت كانت فلسطين أقل توحداً بكثير مما كانت عليه لأكثر من ألف عام. ويكاد الحديث أن يكون غير ممكن تاريخياً عن أورشليم القرن العاشر. فلو وجدت إطلاقاً، ولم تعثر سنوات من التنقيب على أي أثر لبلدة من القرن العاشر، لكانت ما تزال تبعد قروناً عن امتلاك المقدرة على تحدي أي من (العشرينيات) أو أكثر، من بلدات فلسطين القوية المتمتعة بالحكم الذاتي.

يقول فنكلشتاين، وسلبرمان: «وكما رأينا، فإنه لا وجود لشواهد أركيولوجية مقنعة على وجود مملكة تاريخية موحدة اشتملت على جميع أراضي إسرائيل -فلسطين-، وكانت عاصمتها في أورشليم». 

يقول دايفيد أوسشكين، أستاذ الآثار في جامعة تل أبيب: «من منظور علم الآثار ليس هناك ما يمكن معرفته عن جبل الهيكل في القرنين العاشر والتاسع قبل الميلا».أما جين كاهل، أستاذة آثار في الجامعة العبرية: «ليس هناك أي بقايا آثارية في القدس يمكن أن تعرف بثقة بأنها تعود إلي أي بناء سماه الكتب». ويؤكد نايلز بيتر لمكه، أستاذ الدراسات التوراتية في جامعة كوبنهاجن: «لم يكتشف نقش واحد يعود إلى زمنهما [داود وسليمان] ولم تكتشف كسرة واحدة من بناء عظيم». 
في استعراض غبريل باركاي (Gabriel Barkay) لآثار فترة العصر الحديدي الثاني يتوصل إلى الاستنتاج الذي يقول: «إن التحديد الدقيق لتاريخ طبقات التوطين ومجموعات اللقى العائدة للقرنين العاشر والتاسع قبل التاريخ الشائع محفوف بالمصاعب». كما يضطر لأن يستنتج أن «فكرة المجد» التي تنبثق من الروايات الكتابية لا تتطابق مع «الواقع الذي تعكسه اللقى الأثرية». 

أخيراً، القرار لم يأتى بجديد، وإنما أكد على ما توصل إليه العلماء من أن المملكة الداوديةـ السليمانية، ليست أكثر من اختراع توراتي تنفيه كل الوقائع الأركيولوجية والتاريخية في بلادنا فلسطين.