القدسُ ليست أورشليم
كاتِب وباحِث فلسطيني في التاريخِ القديمِ
عنوانُ هذا المقالِ مستعار من عنوانِ كتابِ الصديقِ الباحثِ العراقي، فاضل الربيعي، الموسوم «القدسُ ليست أورشليم، مساهمةُ في تصحيحِ تاريخِ فلسطينِ»، الذي صدر في العام 2010. في هذا الكتابِ، طرح الربيعي بوضوحِ النظرية التي تؤكد إن "القدسُ الفلسطينيةُ ليست أورشليم التوراةِ". وبالرغم من أن الراحلَ د. كمال الصليبي، قد أشار إلى ذلك في عدةِ أعمال له، منذُ العامِ 1985؛ وذهبَ الباحثُ العربي، فرج الله صالح ديب، في كتابهِ «التوراةُ العربيةِ وأورشليمُ اليمنيةِ»، الذي صدرَ في العامِ 1994، إلى أن "مدينةَ أورشليم يمنية"؛ وأشار الباحث المصري، أحمد عيد، إلى ذلك في كتابه «جغرافية التوراة في جزيرة الفراعنة»، الذي صدر في العام 1996، وطرح كاتب المقال، الباحث أحمد الدبش، في كتابهِ «كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة العرب»، الذي صدر في العام 2006، السؤال الآتى:
هل كانت (أورشليم) في اليمنِ؟! وحاولَ عددٌ من الباحثينَ تتبُّع ملوك بني إسرائيل في عدّةِ أماكنَ خارج بلادنا فلسطين.
إلا أن الربيعي كان أكثر من كتبوا في هذا الموضوعِ وضوحًا؛ فقد قدَّم الربيعي هذهِ النظرية استناداً إلى قراءتهِ للتوراةِ باللغةِ العبريةِ، والاعتمادِ على مؤلفاتِ الهمداني، والمصادرِ العربيةِ القديمةِ، والاستعانةِ بالشعرِ العربي القديمِ.
على أيّة حال؛ فقد تعرَّض أصحاب هذا الاتجاهِ إلى النقدِ والتجريحِ من قِبَلِ بعض الباحثينَ، الذين اصطنعوا صرحاً تاريخياً وهمياً لوجود بني إسرائيل في فلسطين؛ صرحاً لا ينبنى على حقائقِ تاريخيةِ أو جغرافيةِ أو دينيةِ.
هل نحنُ أصحابَ هذه النظريةِ؟!
من الجديرِ بالانتباهِ، أن أطروحات الباحثينَ التي تَعتبر (عسير)، أو (اليمن)، أو (الجزيرةِ العربيةِ) عموماً هي المسرح الجغرافي والتاريخي لملوكِ بني إسرائيلَ ليست بجديدة؛ فقد سبقهم العديد من الباحثين المستشرقينَ الثقاة؛ ففي عام 1907، بدأت أكاديميةُ فينيا، بإصدارِ مؤلَّفِ المستشرقِ النمساوي (Alois Musil)، بعنوان «Arabia Petraea» في أربعة أجزاء، والذي كتبهُ أثناءَ زيارتهِ لمواقعِ التاريخ التوراتي، أملاً في أن يفهمَ التوراة من خلالِ الطبيعةِ التي وُلِدَت فيها، وأدرك (Alois Musil) في حينهِ، وقبل غيرهِ، ما توصَّل إليه الباحثون العرب.
بل لقد ذهبَ المستشرقُ مرجوليوث، إلى أن "الوطنَ الأصلي لبني إسرائيل لم يكن في شبهِ جزيرةِ سيناءِ؛ بل كان ببلادِ اليمنِ التي خرجت منها أمم كثيرةً من أقدمِ الأزمنةِ التاريخيةِ".
وقد ألَّفَ المستشرقُ الألماني هوغو ونكلر (Hugo Winckler) رسالتهُ المثيرةِ للجدلِ التي أسماها «مصري وملوخا ومعين»؛ وهي التى تبنّى فيها هذا الاتجاه.
القدسُ ليست أورشليمَ أو يبوسَ
ذهبَ أكثريةُ الباحثينَ إلى رفضِ نظريةِ «القدسَ ليست أورشليمَ» استناداً إلى سببيْن؛ الأول أن مدينة أورشليم ذُكِرت في النصوصِ المصريةِ القديمةِ؛ أما السبب الثاني فهو أن النصوصَ القرآنيةَ تُشيرُ إلى داوودِ وسليمانِ؟!
هنا أجد لزاماً علينا إبداء بعضَ الملاحظاتِ، لم يتطرَّق لها باحثو اتجاه «جغرافيةَ الكتابِ المقدسِ»، وقد ذكرتها في مؤلفي «اختطاف أورشليم»، في عام 2013:
أولاً: لا وجودَ لمدينةِ القدسِ قبل القرنِ السابعَ قبل الميلادِ أثرياً؛ (تومس طومسون، كيث وايتلام، يسرائيل فلنكشتاين، مرجريت شنايدر، نيلز لمكة، وغيرهم من الباحثين).
ثانياً: في العامِ 1926، قامَ العالمُ الألماني سيث (K. Sathe) بترجمةِ نصوصَ اللعنةِ المصريةِ في القرن التاسع عشر ق.م.، والتعليق عليها. وقد لفت نظر سيث (K. Sathe) كلمةَ «أوشام» (Awsamm)، في عددٍ من هذه النصوصِ، ففسَّرها بأنها «أورشالم».
ثالثاً: إذن الكلمةُ التي وَجدَ فيها الباحثونَ إشارةً إلى (أورشليم)، هي (Rw'szmm) الهيروغليفية؛ فقد قُرِأتَ الكلمةَ على أنها اسمَ مكان، ورُجِّح أن طريقةَ لفظها هي الطريقةِ المصريةِ للفظ كلمةِ أورشليمِ، التي كانت بالنسبة إليهم اسماً أجنبياً لبلدٍ أجنبي، يُقرأ على نحو يشبه (أ) رو ـ شاليموم (“U” rushalimum)؛ وهي قراءة قريبة من قراءةِ وثائق تل العمارنة اللاحقة للاسمِ، ولكن هذه القراءةِ لقيت معارَضة من الباحثِ ناداف نعمان (N. Na’aman)، الذي يرى أن الشطرَ الأولَ من الكلمةِ يجب أن يُقرأ روش (ros) ويعني رأس. أما الشطر الثاني فيُقرأ راميم، لتصبحَ الكلمة "روش ـ راميم" (Roshramem).
رابعاً: عند قراءةَ النقشِ بهدوءِ نجد أنّ الاسم ليس «أورشليم» كما بيّنا؛ بل هو: «أُشاموم»، وتعني الشام نفسها مموّمة (مثل التنوين)؛ وإليكم النقش (صورة النقش مرفق):
احتوى النقش مخصص للأرض وليس مخصص للمدينة.
أُ شام [وم] مثل التنوين = شامٌ.
حيث [أُ] سابقة تفيد التنبيه، حيث أقول: [أمهيبة] بمعنى [مهيبة] (اسم علم من نقوش أجاريت). وأقول [أُجاريت] لتعني [جريت = جرية = قرية = مدينة] (نقوش أجاريت).
فإذا كانت أورشليم فأين الراء وأين اللام.
ثم إنّ المخصّص الدالّ على الكلمة هو لأرض واسعة .
خامساً: ذَكرتَ التوراةُ في العديدِ من المواضع اسماً آخر لأورشليمِ؛ هو «يبوس». وبالرغم من ذِكر التوراة لهذا الاسمِ؛ إلا أن الوثائقَ الأثريةَ قد صمتت بخصوصهِ صمتاً مطبقاً.
سادساً: لا نجد في كلِ سورِ القرآنِ الكريمِ، التي تتحدَّث عن داوودِ، وابنهِ سليمان أقل دليل، أو حتى تلميح على وجودِ المملكةِ الداوديَّةِ ــ السليمانيَّةِ في بلادِنا فلسطين؛ علاوةً على ذلك، فإنه عندما فتحَ المسلمون بيتَ المقدسِ،في عام 636 ميلادياً، لم يكن بها أي أثر لمعبدٍ يهودي؛ بل ولا حتى ليهودي مقيم؛ وهذا يبدو جلياً من وثيقةِ الأمانِ التي أعطاها أميرُ المؤمنينَ، عمر بن الخطاب (رضي اللهُ عنهُ) لأهلِ إيليا؛ فقد تضمَّنتَ الوثيقةُ نصاً على: [ألا يسكن بإيليا (القدس) معهم أحدًا من اليهودِ].
سابعاً: جاء في القرآنِ الكريمِ عن حديثِ الهدهدِ مع سليمانِ: "فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ". وإذا عَنَتْ جملة "فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ"؛ أي غابَ الهدهدُ غيبةً ليست طويلة، ثم قدم منها. وقصرُ المدةِ الزمنيّةِ تعني قصرُ المسافةِ المكانيّةِ، فإنما يدلَ على أن مملكةَ سليمانُ لم تكن بعيدة عن أرضِ سبأ (اليمن)، نظراً لقِصرِ المدةِ الزمنيَّةِ لرحلةِ الهدهدِ، وبالتالي قصرِ المسافةِ المكانيَّةِ.
كل ما يمكن قوله، في النهاية، أتمنى أن يُتابعَ المؤرخونَ والباحثونَ، تحقيقاتهم حول هذا الموضوع، خدمةً لتاريخِنا الذي تعبثُ بهِ الأيدي؛ فإعادة صياغة تاريخنا، وتحريره من قبضةِ الدراساتِ التوراتيّةِ، ليست وقفاً على الأكاديميينَ وحدهم؟!
No comments:
Post a Comment