اليونسكو وشبح اليهود!
بقلم: أحمد الدَبَشْ
كاتِب وباحِث فلسطيني في التاريخِ القديمِ
صادقت لجنة المدراء التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» يوم الخميس (13/10/2016) خلال اجتماع عقد في العاصمة الفرنسية باريس، على قرار ينفي وجود ارتباط ديني لليهود بالمسجد الأقصى وحائط البراق. ويؤكد القرار على أنه: «لا علاقة أو رابط تاريخي أو ثقافي لليهود في مدينة القدس والمسجد الأقصى »، على أن يُصوّت المجلس التنفيذي للمنظمة، الثلاثاء المُقبل (18/10/2016)، على قرارين جديدين يهدفان إلى «الحفاظ على التراث الثقافي الفلسطيني وطابعه المميز في القدس الشرقية». وحدّد القرار هوية المسجد الأقصى، وتضمّن بنداً خاصّاً يتعلّق بالحرم القدسي، ويعرض فيه المكان على أنه مُقدّس للمُسلمين فقط، من دون أي اشارة الى قدسيته بالنسبة لليهود.
كما لا يظهر في مشروع القرار أي ذكر لكلمات «جبل الهيكل» (Temple Mount)، وإنما يُكنّى فقط بأسمائه الإسلامية، المسجد الأقصى، والحرم الشريف. كما تُسمى منطقة الحائط الغربي باسمها العربي الاسلامي ـ ساحة البراق، التي سعت إسرائيل بشكل مستمر لتزوير هويته الإسلامية بإطلاق مسمى «جبل الهيكل» عليه.
اعتبرت وزارة الخارجية الصهيونية أن القرار يأتي «لتقويض الصلة اليهودية بالقدس». ووصف رئيس وزراء العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو ما يجري داخل المنظمة الدولية بـ «المسرح الهزلي السخيف». وقال: «مسرح العبث في اليونسكو مستمر واليوم تبنّت المنظمة قرارا مضللا آخر يقول إن الشعب (الإسرائيلي) ليس له ارتباط بجبل الهيكل والحائط الغربي، إعلان أن (إسرائيل) ليس لها علاقة بجبل الهيكل والحائط الغربي أشبه بالقول إن الصين ليس لها علاقة بسور الصين العظيم أو أن مصر ليس لها علاقة بالأهرام».
أن أهمية هذا القرار ليست تاريخية وأثرية فقط، وإنما سياسية أيضاً، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن دولة (إسرائيل) الحديثة ترجع مطالبتها التاريخية والطبيعية إلى دولة العصر الحديدي [مملكة داود وسليمان]. فقد أشار إعلان الاستقلال (دولة إسرائيل الحديثة) الذي أصدره مجلس الأمة المؤقت في تل أبيب في 14/5/1948؛ إلى «إعادة بناء الدولة اليهودية» (re-establishment of the Jewish state)، وما هذا التعبير إلا صياغة لوعد بلفور الذي أعلن قبل واحد وثلاثين عاماً من إنشاء الدولة، ذلك الوعد الذي تحدث عن «إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين».
ففي السنوات الأخيرة، بدأ الإجماع على فكرة وجود المملكة الدوادية ـ السليمانية يتداعى تدريجياً، وإن كانت هذه الفكرة لا تزال تهيمن على خطاب الدراسات التوراتية، ومن يواليهم أصحاب الفكر الآسن حراسه من بعض الأكاديميين العرب. فقد أصدر ليتش، نقداً معتدلاً في حدته للاستخدام التاريخي للقصص التوراتية من منظور (أنثروبولوجي) بنيوى. والموضوع السائد في كتابه هو أن الكتاب العبري بوصفه نصاً مقدساً لا يوفر مصدراً تاريخياً ولا يعكس بالضرورة حقيقة عن الماضي. إنه يمثل عند ليتش، تبريراً للماضي يكشف عن عالم القصّاصين أكثر مما يكشف عن أية حقيقة تاريخية. ويطرح أسئلة مهمة جداً تثير شكوكاً حول التقديمات السائدة لحكمي داود وسليمان، وتُسائل تاريخية هذه المرحلة الهامة كما قُدمت في الموروثات الكتابية؛ أنا شخصياً أرى ذلك غير قابل للتصديق. ليس هناك أي دليل أثري على وجود هذين البطلين أو على وقوع أي من الأحداث التي ارتبطت بهما. ولو لا قداسة هذه القصص لكان وجودهما التاريخي مرفوضاً بالتأكيد.
شكك عالم الآثار يسرائيل فنكلشتاين، من جامعة تل أبيب بوجود أي صلة لليهود بالقدس، جاء ذلك خلال تقرير نشرته مجلة «جيروساليم ريبورت» الصهيونية، توضح فيه وجهة نظر فنكلشتاين، الذي أكد أنه لا يوجد أساس أو شاهد إثبات تاريخي على وجود داود، هذا الملك المحارب الذي اتخذ القدس عاصمة له والذي سيأتي (الميا) من صلبه للإشراف على بناء الهيكل الثالث، مؤكداً أن شخصية داود كزعيم يحظى بتكريم كبير لأنه وحد مملكتي يهودا وإسرائيل هو مجرد وهم وخيال لم يكن لها وجود حقيقي. كما يؤكد فنكلشتاين أن وجود باني الهيكل وهو سليمان بن داود مشكوك فيه أيضاً.
يشير مِلَّر، إلى أنه ليس هناك دليل على المملكة الداودية ــ السليمانية خارج التقاليد والموروثات الكتابية، المؤرخون الذين يتحدثون عن هذا الكيان إنما يفترضون مسبقاً صحة المعلومات التي يأخذونها من الكتاب العبري.
يقول العلاّمة طمسن، في كتابه «الماضي الخرافي (التوراة والتاريخ)»: «جرى تقديم ــ القرن العاشر ق.م ــ بوصفه العصر الذهبي لإسرائيل وعاصمتها في أورشليم. كانت تلك الحقبة مرتبطة بالمملكة المتحدة التي تضم السلطة السياسية لشاول وداود وسليمان وتسيطر على الجسر البري الضخم من النيل إلى الفرات. إضافة إلى مفهومها عن الهيكل الذي بناه سليمان بوصفه مركزاً لعبادة يهوه. تلك الصور لا مكان لها في أوصاف الماضي التاريخي الحقيقي. إننا نعرفها فقط كقصة، وما نعرفه حول هذه القصص لا يشجعنا على معاملتها كما لو أنها تاريخية، أو أنه كان يقصد منها أن تكون كذلك. ولا يتوافر دليل على وجود مملكة متحدة، ولا دليل على وجود عاصمة في أورشليم، أو وجود أي قوة سياسية موحدة متماسكة، هيمنت على فلسطين الغربية، ناهيك عن إمبراطورية بالحجم الذي تصفه الحكايات الأسطورية. ولا يتوافر أي دليل على وجود ملوك يدعون شاول أو داود أو سليمان؛ ولا نملك دليلاً على وجود هيكل في أورشليم في هذه الفترة المبكرة. ما نعرفه عن إسرائيل ويهوذا القرن العاشر لا يسمح لنا بتفسير انعدام الدليل هذا بوصفه فجوة في معرفتنا ومعلوماتنا حول الماضي، أو مجرد نتيجة للطبيعة العرضية للآثاريات. ما من متسع ولا سياق، لا شيء مصطنع أو أرشيف يشير إلى مثل هذه الحقائق التاريخية في القرن العاشر في فلسطين. لا يمكن للمرء أن يتكلم على دولة بلا سكان. ولا يمكنه أن يتكلم عن عاصمة من دون بلدة. والقصص ليست كافية».
إذن لا يوجد متسع لمملكة متحدة تاريخية أو لملوك كأولئك الذين جرى تقديمهم في القصص الكتابية لشاول وداود وسليمان. إن الحقبة المبكرة التي تؤطر فيها التراثات حكاياتها هي عالم خيالي من زمن غابر لم يوجد على هذا النحو أبداً .. لم يكن من الممكن أن توجد مملكة لأي شاول أو لأي داود ليكون ملكاً عليها، ببساطة لأنه لم يكن ثمة ما يكفي من الناس. دولة يهوذا لم تكن فقط غير موجودة بعد، بل إننا لا نملك أي دليل على وجود أي قوة سياسية في أي مكان في فلسطين كانت كبيرة بما يكفي، أو متطورة بما يكفي لأن تكون قادرة على توحيد الاقتصادات والأقاليم العديدة لهذه البلاد. في هذا الوقت كانت فلسطين أقل توحداً بكثير مما كانت عليه لأكثر من ألف عام. ويكاد الحديث أن يكون غير ممكن تاريخياً عن أورشليم القرن العاشر. فلو وجدت إطلاقاً، ولم تعثر سنوات من التنقيب على أي أثر لبلدة من القرن العاشر، لكانت ما تزال تبعد قروناً عن امتلاك المقدرة على تحدي أي من (العشرينيات) أو أكثر، من بلدات فلسطين القوية المتمتعة بالحكم الذاتي.
يقول فنكلشتاين، وسلبرمان: «وكما رأينا، فإنه لا وجود لشواهد أركيولوجية مقنعة على وجود مملكة تاريخية موحدة اشتملت على جميع أراضي إسرائيل -فلسطين-، وكانت عاصمتها في أورشليم».
يقول دايفيد أوسشكين، أستاذ الآثار في جامعة تل أبيب: «من منظور علم الآثار ليس هناك ما يمكن معرفته عن جبل الهيكل في القرنين العاشر والتاسع قبل الميلا».أما جين كاهل، أستاذة آثار في الجامعة العبرية: «ليس هناك أي بقايا آثارية في القدس يمكن أن تعرف بثقة بأنها تعود إلي أي بناء سماه الكتب». ويؤكد نايلز بيتر لمكه، أستاذ الدراسات التوراتية في جامعة كوبنهاجن: «لم يكتشف نقش واحد يعود إلى زمنهما [داود وسليمان] ولم تكتشف كسرة واحدة من بناء عظيم».
في استعراض غبريل باركاي (Gabriel Barkay) لآثار فترة العصر الحديدي الثاني يتوصل إلى الاستنتاج الذي يقول: «إن التحديد الدقيق لتاريخ طبقات التوطين ومجموعات اللقى العائدة للقرنين العاشر والتاسع قبل التاريخ الشائع محفوف بالمصاعب». كما يضطر لأن يستنتج أن «فكرة المجد» التي تنبثق من الروايات الكتابية لا تتطابق مع «الواقع الذي تعكسه اللقى الأثرية».
أخيراً، القرار لم يأتى بجديد، وإنما أكد على ما توصل إليه العلماء من أن المملكة الداوديةـ السليمانية، ليست أكثر من اختراع توراتي تنفيه كل الوقائع الأركيولوجية والتاريخية في بلادنا فلسطين.
No comments:
Post a Comment