نموذج صناعة المفكر ج2
بقلم: محمد خلاوى
(باحث ومدرب في الدراسات
القرآنية والفكر الإنساني)
أستكمل معكم ما بدأته معكم
في المقال السابق بالحديث عن "نموذج صناعة المُفكر"، من سلسلة متكاملة
تحمل عنوان "بناء المفكر". لعلي من خلال هذه الكلمات أستطيع أن أعالج
أزمة خطيرة ومهمة من أزمات الأمة الإسلامية وهي (أزمة الفكر).
أسترجع
معكم بعض التعريفات الهامة مما قلته في المقال الأول وهي كالتالي:
-
الفكر: هو إعمال العقل في أمر ما للوصول إلى رأي جديد
فيه.
-
المفكر: هو الشخص القادر على إعمال عقله في أمر ما
للوصول إلى رأي جديد فيه.
-
مثال: المفكر الاقتصادي: هو الشخص القادر على إعمال عقله
في الأمور الاقتصادية للوصول إلى رأي جديد فيها.
-
المفكر بشكل عام هو: الذي يبحث في الظاهرة الحضارية
(تأخر وتقدم الأمم).
-
الحضارة: هي منهج فكري لأمة في حقبة تاريخية يتشكل في
مدنية.
· نموذج بناء المُفكر:
وقد
ختمت معكم المقال السابق بعرض الجزء الأول من "نموذج متكامل لبناء الـمُفكر"،
وأعرض باقي تفاصيله معكم الآن وفي المقالات القادمة أيضاً..
فهذا نموذج معرفي صممته لك لمعرفة ما هي الصفات الهامة المطلوبة فيك لتكون من المفكرون الذين يساهمون في البناء المعرفي للأمم والحضارات ومنها وأهمها الحضارة الإسلامية العربية..
فهذا نموذج معرفي صممته لك لمعرفة ما هي الصفات الهامة المطلوبة فيك لتكون من المفكرون الذين يساهمون في البناء المعرفي للأمم والحضارات ومنها وأهمها الحضارة الإسلامية العربية..
دعوني
نُكمل على ما بدأته من هذا النموذج ونُكمل بالجزء الثاني من هذا النموذج وهو
كالتالي:
· ثانياً: الاستقلالية:
فالمفكر
هو نسيج لوحدة لا يتعب أحداً ولا يحركه أحد. مستقل في فكره فرأيه ينبع من داخله
بعد تفكيره العميق في الأمور من حوله. لا يمُلي عليه أحد رأيه، فالمفكر ليس نسخة
مكررة من شخص أخر أنما هو حر الفكر.
عندما يُفكر ويطرح أفكاره لا يخاف من أي شخص أن خوفه
الوحيد هو من غضب الله عليه إذا أصبح فكره موجه لأغراض تهدم السلام العالمي وتهدد
الإنسانية كلها. فهو بذلك أصبح "الباحث المؤدلج"(1) الذي لا يفكر بموضوعية وإنما بتحيز مستمر لجهة محددة
توجهه دون أن يفكر هو في تلك الأفكار المطروحة عليه. فإياك أنت تعيش في وهم الكهف،
فما هو وهم الكهف هذا ؟!
وهم الكهف
تخيل معي أيها
القارئ الكريم؛ أن هناك مجموعة من البشر موجودة في مكان وزمان معين وأن هذه
المجموعة سنطلق عليها أسم "مجموعة الجيل الأول (أ)" وقد قررت هذه
المجموعة من الجيل الأول أن تترك جيلها بأكمله وتخالفه في كل شيء وتكون لها سكن في
مكان ما في كهوف مظلمة لا يعلم عنها أي أحد من جيلهم معلومات عن هذا الكهف ومكانه
وبالفعل سكنت هذه المجموعة من الجيل الأول لفترة طويلة من الزمن وقد تكاثرت وهذا
أمر طبيعي وبهذا يكون أسم هذا التكاثر الجديد "الجيل الثاني (ب)" ولقد
تعلم الجيل الثاني كل تعاليم الجيل الأول بالحرف والدقة الشديدة ولم يخالفه قط
لأنه أعتقد أنه يحمي نفسه بهذه التقاليد والتعاليم التي تعلمها من مجموعة الجيل
الأول وهذه التعاليم تنص على أن لكي يحافظوا على تواجدهم العددي في كل زمان لا بد
أن يكونوا دائماً متواجدين داخل الكهف ولا يخرجوا منه تحت إي ظرف لأن خارج الكهف
يسكن مجموعة من
الأشرار والجن التي تريد أن تأكلهم ولذلك هم يختبئون منهم داخل الكهف !
ولكي يُرسخ ذلك
المفهوم "مجموعة الجيل الأول (أ)" في "الجيل الثاني (ب)" كان
هناك فاتحة خروج من الكهف وكان خارج الكهف الشمس فكانت الشمس تعكس ضوئها داخل هذا
الكهف بالتالي كل من خارج الكهف كان ينعكس ظله داخل الكهف فأستغل "مجموعة
الجيل الأول (أ)" هذا الظل ليرسخوا في عقول "الجيل الثاني (ب)" أن
هذه حركات الجن والشياطين التي تريد أن تأكلهم ولذلك يجب عدم الخروج لهم !
ومع مرور الوقت
تكاثر "الجيل الثاني (ب)" ليأتي بـ "الجيل الثالث (ج)" وقد
توفى كل رموز "مجموعة الجيل الأول (أ)" وتبقى بذلك الجيل الثاني والثالث
فقط .
فالجيل الثاني قد
حمل كل تعاليم وتقاليد مجموعة الجيل الأول وبالتالي سينقلها لمجموعة الجيل الثالث
الجديد بكل تفاصيلها ولن يهمل منها حرف واحد. ولكن ظهر شاب من مجموعة الجيل الثالث
كان أسمه (عقل) فكر في كل ما قيل له من أبائه ولكنه وجد تناقض في كلامهم فسألهم عن
هذا التناقض ولكنهم
نهروه وصدوه عن كل ما يُفكر فيه وقاله له هذا ما تعلمناه وإياك أن تخالفه فخذه كما
هو ولا تناقش فيه كثيراً. فرفض الشاب (عقل) هذا الكلام وقرر أن يكتشف بنفسه ما هو
خارج الكهف ويختبر بنفسه صحة ما قيل له من تعاليم وتقاليد وبالفعل خرج خارج الكهف
ووجد ضوء الشمس يضرب في عيناه فبدأت تؤثر على رؤيته لأنه تعود على العيش في الظلام
وأستنشق الهواء النظيف الطبيعي وسرعان ما تعود على هذا الجو الطبيعي الجديد
بالنسبة له ومضى وقت طويل يتأمل في جمال الطبيعة ولكنه تذكر أهله بداخل الكهف فرجع
لهم مرة أخرى وبدأ في دعوتهم للخروج خارج الكهف ولكن دعوته هُزمت بالفشل وبالهجوم
عليه من "الجيل الثاني (ب)" فقالوا له أنت تعاونت مع الجن والشياطين
لتخرج أبناء جيلك لكي يأكلوهم خارج الكهف أنت خائن وعميل لهم. فرد وقال لا أنما
أردت لكم الخير والنعيم الذي رأيته وإنما نحن قد تعلمنا أشياء خاطئة منكم وأنتم
تعلمت الخطأ من أبائكم الأولين !
فتأثر بعض البشر
من أبناء الجيل الثالث وخرجوا معه وبقي الباقي داخل الكهف بعد أن سبوه وضربوه
ليخرج ويبعد عنهم ولا يعود مرة أخرى. وبذلك عاشوا هم في (وهم الكهف) وعاش هو في
نعيم الطبيعة الجديدة (الفطرية)..
لقد أردت من خلال هذه
القصة التي سميتها (وهم الكهف) أن أضرب لكم مثلاً كيف أننا نتأثر بما تربينا عليه
حتى وأن كان خطأ لمجرد أننا لا نعمل عقولنا. وكما قال تعالى في كتابه العزيز:
كل هذه الآيات تقول لنا أن لا نتبع أقوال الناس لمجرد أن
كثيراً منهم قد قالوه أو أننا قد تربينا على ذلك، وتقول أن نعمل عقولنا فيما يُقال
لنا من أقوال.
جاء في كتاب تاريخ بغداد نقلاً عن أبي
حنيفة النعمان – صاحب المذهب الشهير المذهب الحنفي – ما نصه:
" آخذ بكتاب الله، فإن لم أجد، فبسنة رسول الله، فإن لم أجد في كتاب الله ولا
سنة رسول الله، أخذتُ بقول الصحابة، آخذ بقول من شئت منهم، وأدع من شئت منهم، ولا
أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي، وابن
سيرين، والحسن، وعطاء، وسعيد بن المسيب – وعدد رجالاً – فهم رجال ونحن رجال، فقومٌ
اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا ".
وأنت أيضاً أيها
المُفكر المستقل في فكرك لا تجعل من تلاميذك أتباع لك يقلدوك كيفما تشاء أنت فلا
تكون مستقل وتأمر بتقليدك وأتبعاك على مبدأ فرعون مصر الذي قال لقومه:
كان أبو حنيفة النعمان من تواضعه العلمي
لا يفترض في رأيه أنه الحق المطلق الذي لا يُشك فيه، بل كان يقول: قولنا هذا رأي،
وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا، فهو أولى بالصواب منا.
وقيل له: يا أبا
حنيفة، هذا الذي تفتي به هو الحق لا شك فيه ؟
قال: والله لا أدري، لعله الباطل الذي لا
شك فيه..(2)
وكان الشافعي أيضاً يقول: يا أبا موسى، لو
جهدت كل الجهد على أن ترضي الناس كلهم فلا سبيل إليه، فإذا كان كذلك، فأخلصْ عملك
ونيتك لله عز وجل. (3)
وقال أيضاً: ما ناظرتُ أحداً فأحببتُ أن
يخطئ. (4)
وقال
أيضاً: قولنا صواب يحتمل الخطأ وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب.
أختم معكم هذا المقال بهذا الجزء الثاني من هذا النموذج وفي المقال القادم سأتحدث عن باقي الخطوات بالتفصيل...
------------------------------------------------------------------------
(1) كلمة "المؤدلج" أتت من مصطلح "الأيديولوجية" وهي منظومة من الأفكار يصنعها مفكر ما،تقوم بدراسة الواقع، والاستشهاد بالماضي، ورسم صورة واعدة للمستقبل. وجدت في لحظة تاريخية معينة لمحاولة الإجابة على مشكلة كانت موجودة أمامه ووجد استجابة كبيرة جداً من الناس لهذه الفكرة دون أن يناقشوا مقدماتها ولا كيفية استنتاجها ولا حتى صحة الأدلة التي توجد عليها، تُصبح بعد ذلك جزء من المسلمات تسير في الدم لا يناقشها الإنسان ولا يبحث فيها، ثم يصبح الشكل الخارجي لها أيضاً – الذي هو التنظيم ومسميات التنظيم وشكليات العمل – أيضاً تصبح مقدسة بسبب قداسة الفكرة الأولى لصاحبها وعندما تستند بأفكار دينية فيصبح شكلها كأنها من الدين.. وعندها تصبح الأيديولوجية صلبة جداً على أي عمليات تحول ومقاومة وتعطي إجابات بسيطة لأي مشكلة من المشاكل، تصبح عندها نظام كامل تقوم عليه أفكار مجموعات بحرية معينة تناضل وتقاتل من أجله وتعيش من أجله.
- مشكلة الأيديولوجية: أن الناس بقليل من الأيديولوجية تصلح حياتها، الإنسان لا يعيش إلا بنظام أفكار، لكن عندما تكون كثيفة جداً تحجب الإنسان عن الواقع تماماً فهو عندما لا يتعامل مع الواقع يعتقد أذاً الواقع سيتغير بطريقة معجزة لأنه وصل للحقيقة الكاملة !
فهي مثل الملح إذا كانت كميتها كبيرة تؤدي إلى ضغط الدم والموت بالسكتة القلبية، وإذا كانت كميتها قليلة تصبح حياته أحلى وطعامه ألذ.
(2)
د.طارق السويدان، الإمام أبو حنيفة النعمان: السيرة
المصورة، ط 1، شركة الإبداع الفكري – الكويت، جمادي الأول 1432 هـ/ أبريل 2011 م –
ص 105
(3)
د.طارق السويدان، الإمام الشافعي: السيرة المصورة، ط 3،
شركة الإبداع الفكري – الكويت، شعبان 1433 هـ/ يونيو 2012 م – ص 92
(4)
المصدر نفسه، ص 64
No comments:
Post a Comment