نموذج صناعة المفكر ج3
بقلم: محمد خلاوى
(باحث ومدرب في الدراسات
القرآنية والفكر الإنساني)
أستكمل معكم ما بدأته معكم
في المقالات الثلاثة السابقة بالحديث عن "نموذج صناعة المُفكر"، من سلسلة متكاملة
تحمل عنوان "بناء المفكر". لعلي من خلال هذه الكلمات أستطيع أن أعالج
أزمة خطيرة ومهمة من أزمات الأمة الإسلامية وهي (أزمة الفكر).
أسترجع
معكم بعض التعريفات الهامة مما قلته في المقال الأول وهي كالتالي:
-
الفكر: هو إعمال العقل في أمر ما للوصول إلى رأي جديد
فيه.
-
المفكر: هو الشخص القادر على إعمال عقله في أمر ما
للوصول إلى رأي جديد فيه.
-
مثال: المفكر الاقتصادي: هو الشخص القادر على إعمال عقله
في الأمور الاقتصادية للوصول إلى رأي جديد فيها.
-
المفكر بشكل عام هو: الذي يبحث في الظاهرة الحضارية
(تأخر وتقدم الأمم).
-
الحضارة: هي منهج فكري لأمة في حقبة تاريخية يتشكل في
مدنية.
· نموذج بناء المُفكر:
وقد
ختمت معكم المقال السابق بعرض الجزء الثاني من "نموذج متكامل لبناء الـمُفكر"،
وأعرض باقي تفاصيله معكم الآن وفي المقالات القادمة أيضاً..
فهذا نموذج معرفي صممته لك لمعرفة ما هي الصفات الهامة المطلوبة فيك لتكون من المفكرون الذين يساهمون في البناء المعرفي للأمم والحضارات ومنها وأهمها الحضارة الإسلامية العربية..
فهذا نموذج معرفي صممته لك لمعرفة ما هي الصفات الهامة المطلوبة فيك لتكون من المفكرون الذين يساهمون في البناء المعرفي للأمم والحضارات ومنها وأهمها الحضارة الإسلامية العربية..
دعوني
نُكمل على ما بدأته من هذا النموذج ونُكمل بالجزء الثالث والرابع من هذا النموذج وهو كالتالي:
· ثالثاً: التأمل في
الكليات:
المفكر يفكر
دائماً في الكليات وليس في الجزئيات وصغائر الأمور. فبعض الناس يريدون من المفكر
أن يتكلم في كل شيء لأنه يعلم وهذا أمر في طبع الناس للأسف فتجد بعض الناس تأتي
لهذا المفكر وتسأله مثلاً: عن حكم نمص الحواجب للمرأة هل هو حرام أم حلال ؟!
من الواضح جداً
أن هذا أمر جزئي جداً يخص أمور الفقه فهذا ليس ما يشغل المُفكر وأنه صغائر الأمور
هذه لا تصنع النهضات للأمم فالمفكر همه الرئيسي في الكليات الشاملة لقضايا الفكر
وقضايا تقدم الأمم وتأخرها ويحاول الوصول إلى حل فيها وليس أمر جزئي مثل هذا.
فالمفكر له مهام
واضحة ومن أهمها هي:
1-
تبسيط الفكر
لعامة الناس.
2- نشر الفكر والوعي للجميع.
3- نحت التعاريف الجديدة.
4- تغيير القناعات والمفاهيم
المغلوطة لدي الناس.
5- طرح الحلول المناسبة للمشاكل
المجتمعية.
6- فتح أفاق النمو والتطور وتعريف
الأمة بمكامن القوة والضعف فيها.
7- منع الاختراق الثقافي من قبل
الثقافات الأخرى.
8- توجيه المجتمع وحل تناقضاته
وبناء شخصيته المستقلة.
أصحاب العقول الكبيرة يناقشون الأفكار ...
وأصحاب العقول المتوسطة يناقشون الأشخاص...
وأصحاب العقول الصغيرة يناقشون الأشياء...
|
يقول مالك بن نبي: "لا يقاس المجتمع بكمية ما يملك من الأشياء.. بل
بمقدار ما فيه من الأفكار"
· رابعاً: المنهج
العلمي:
ماذا نقصد بالمنهج العلمي الذي يجب أن
يمتلكه المُفكر ويكون جزء من تفكيره ؟
سوف يكون حديثي عن هذا الجزء بالذات مطول
بشكل عميق في سلسلة أخرى والتي سيكون عنوانها "مناهج البحث
العلمي وفن التأليف" ولكني سأكتفي هنا بالحديث عن مبادئ المنهج العلمي
الصحيح ليس أكثر ولا أقل من ذلك.
وسأطرح نموذج هنا لشرح مهام المُفكر في
امتلاكه المنهج العلمي وسميت هذا النموذج.
نموذج
( 5 ت )
ت 1
|
تلاحظ الظاهرة
|
ت 2
|
توصف الظاهرة
|
ت 3
|
تحلل وتفسر الظاهرة
|
ت 4
|
تتنبئ بالمستقبل (ما
هو قادم ؟)
|
ت 5
|
تتحكم بالظاهرة
والواقع
|
وسأشرح خطوات المنهج العلمي من خلال مثال
عملي مصغر ...
1-
ملاحظة
الظاهرة:
تخيل أنك في يوم من الأيام كنت جالساً
تقرأ هذا الكتاب وذهبت للمطبخ لكي تُحضر لك كوب شاي ساخن لكي تركز وتنتبه لكل
كلمات هذا الكتاب J
وبالفعل ملئت براد الشاي ماء وتركته يغلي
على النار لكي تسخن الماء وأنت في انتظار الماء تغلي ومع هذا الانتظار بدأت الماء
تغلي وكان براد الشاي محكم الغطاء فبدأ غطاء هذا البراد يرتفع ويتحرك فبدأت "
تلاحظ " تحرك غطاء البراد وتندهش لأنك غير متعود على دخول المطبخ وتحضير
كوب الشاي هذا فأول مرة تلاحظ تحرك غطاء الشاي وقد يكون غليته كثيراً من قبل ولكن
أول مرة تلاحظ بهذا التركيز وتندهش فبدأت تلاحظ بقوة تحرك غطاء البراد.
فسألت نفسك لماذا يتحرك غطاء البراد بهذه
القوة وهذا الاندفاع القوي ؟!
فأنت لم تفوت عليك هذه الملاحظة فرصدتها
ودونتها في كشكول لك وكتبت "أنك لاحظت عند تحضير كوب شاي لي وجدت بعد مرور
10 دقائق من غليان الماء أن غطاء البراد يتحرك ويندفع بقوة للأعلى"..
وبهذا تكون قد لاحظت هذه الحادثة ودونتها.
2-
وصف
الظاهرة:
بعد الملاحظة والتدوين بدأت في التفكير
وتسأل نفسك كثيراً لماذا تحدث هذه الظاهرة ؟
فبدأت في وضع فرضيات تصف بها ما حدث أمامك
من حدث ولاحظته.
إذن (فالفرضية) هي: إجابات مؤقتة
يضعها الباحث – الراصد للظاهرة التي هي موضع البحث – فهي محاولة تحليل المعلومات المجموعة حول الظاهرة الخاضعة
للدراسة والبحث للوصول إلى أبسط تفسير ممكن لهذه المعلومات، وجمعها في إطار نظري
واحد وبالتالي تستطيع التحول بها إلى نظرية شاملة .
وهذا ما حدث معك حول ظاهرة ارتفاع غطاء
البراد فمن خلال ملاحظتك الأولية وجدت أن غطاء براد الماء يرتفع بعد 10 دقائق من
غليان الماء داخل البراد على النار. فكانت فرضيتك كالتالي تقول فيها " أن
غطاء براد الماء يرتفع بقوة من خلال غليان الماء وصعود بخار الماء أذن قوة بخار
تجعل الأشياء تتحرك عندما تضع فوقه "..
3-
التحليل
والتفسير:
فبعد وضع فرضيتك حول هذه الظاهرة بدأت في
أجراء التجارب حول هذه الظاهرة وتكرارها كثيراً وفي كل مرة ترصد الظاهرة وتكتب ما
ظهر أمامك، فبدأ تكون لديك معلومات حول هذه الظاهرة وبدأت تسأل خارج هذه الظاهرة
وترجع إلى ما إذا كان أحد أخر قد كتب حول هذه الظاهرة أو شيء شبيه أو إي شيء عن
كلمات الفرضية مثل البحث عن بخار الماء أو قوة الدفع أو قوانين الجاذبية وهكذا ومن
خلال كل هذه المعلومات تبدأ تُحللها وتحاول تفسيرها مرة أخرى وتجد هل هي بالفعل
توافق فرضيتك أم لا.
4-
التنبؤ
بالمستقبل:
فمن خلال هذه الظاهرة الصغيرة التي حدث
معك بدأت في تعميم الظاهرة على أشياء أكبر وتحاول التنبؤ بما هو قادم وكيف تستفيد
من هذه الظاهرة الصغير في عمليات أكبر لها تأثير على أشياء أخرى.
فقمت بطرح فكرة أكبر مستخدماً بها هذه
الظاهرة التي حدثت معك ورصدتها وحللتها فقلت التالي ماذا لو قمنا بعمل مُحرك بخاري
؟ فبدأت في كتابة وشرح فكرتك وقولت التالي:
المحرك البخاري هو: محرك يستفيد من بخار
الماء المضغوط ذي درجة الحرارة العالية لتحويل الطاقة الحرارية إلى عمل ميكانيكي
وطاقة حركة. وقولت أن طريقة عمل المحرك البخاري الثلاثي كالتالي: يدخل البخار
الساخن من اليسار ثم يُوجه إلى الاسطوانة الثانية ومنها إلى الاسطوانة الثالثة
ليخرج منها وقد فقد طاقته.
وبذلك بدأت في صياغة نظرية كاملة من خلال
فرضيتك الأولى التي أوجدتها من خلال ملاحظتها ورصدك لهذه الظاهرة.
أذن فالنظرية هي: تنظم حقائق، تفسر مجموعة هائلة من الحقائق
فالنظرية في الأصل فرضية قابلة للنقد وللتجريب وقد تنجح في تفسير مجموعة حقائق
وكلما نجحت في تفسير حقائق أكثر وأكثر أصبحت نظرية صادقة ولديها مصداقية وموثوقة
وقوية جداً .
5-
التحكم
بالمستقبل:
فمن خلال هذه النظرية التي وضعتها وكتبتها
في شكل إطار نظري متكامل ومتماسك في بحث كاملة أصبحت بذلك نظرية علمية تحاول أن
تطبقها على أرض الواقع وتستفيد من نتائجها.
وبالفعل بدأت في نشر نظريتك على الأوساط
العلمية والمجلات العلمية الموثوق فيها وطرحتها على أقرانك في العلم والمعرفة
لينتقدوها ويحللوها وتأخذ رأيهم العلمي.
ثم بعد كل ذلك بدأت شركة من الشركات
الصناعية في تبني فكرتك النظرية ومحاولة تنفيذ نماذج لعمل هذا المحرك وبهذا تكون
قد استفادت البشرية من تفكيرك العلمي.
أختم
معكم هذا المقال بهذا الجزء الثالث والرابع من هذا النموذج وفي المقال القادم سأتحدث عن
باقي الخطوات بالتفصيل...
No comments:
Post a Comment